ثق بالله وستأتيك منه سعادة تزيل همك


ثق بالله وستأتيك منه سعادة تزيل همك

ذكر بعض المؤرخين أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام فقام عبد الواحد ابن زيد وكان خطيب البصرة وواعظها فحث الناس على البذل والجهاد ووصف لهم ما في الحنة من نعيم ثم وصف الحور العين وقال: 

غَادَةٌ ذَاتُ دَلالٍ وَمَرَح ** يَجدُ الواصف فِيهَا مَا اقْتَرَحْ 
خُلِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيء حَسَنٍ ** طَيِّبٍ فَالـ«لَّيْتَ» فِيهَا مُطَّرَح
أتُرى خَاطِبُهَا يَسمَعُهَا ** إذْ تُدِيرُ الكَأسَ طَوْرَاً وَالقَدَحْ
يَا حَبِيْبَاً لَسْتُ أهْوَى غَيْرَهُ ** بِالخَوَاتِيْم يَتِمُّ المُفْتَتَحْ
لا تَكُونَنَّ كَمَنْ جَدَّ إلى ** مُنتَهَى حَاجَتِهِ ثُمَّ جَنَحْ
لا، فَمَا يَخْطِبُ مِثْلِي مَنْ سَهَا ** إنَّمَا يَخْطِبُ مِثلِي مَنْ ألَحّْ

فاشتاق الناس إلى الجنة وارتفع بكاء بعضهم ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله فوثبت عجوز من بين النساء هي أم إبراهيم البصرية وثبت ثم قالت يا أبا عبيد أتعرف ابني إبراهيم الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة لبناتهم وأنا أبخل به عليهم ؟ قال نعم قال والله قد أعجبني حسن هذه الجارية وقد رضيتها عروسً لابني إبراهيم فكرر ما ذكرت من أوصاف لعل نفسه تشتاق فقال أبو عبيد : 
إذا ما بدت والبدر ليلة تمه * * * رأيت لها فضلا مبينا على البدر
وتبسم عن ثغر نقى كأنه من * * * اللؤلؤ المكنون في صدف البحر
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى* * * لأزهرت الأحجار من غير ما قطر
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته* * * كغصن من الريحان ذي ورق خضر
ولو تفلت في البحر حلو لعابها* * * لطاب لأهل البر شرب من البحر
أبى الله إلا أن أموت صبابة * * * بساحرة العينين طيبة النشر

فلما سمع الناس ذلك اضطربوا وكبروا وقامت أم إبراهيم وقالت يا أبى عبيد قد والله رضيت بهذه الجارية زوجة لابني إبراهيم فهل لك أن تزوجها له في تلك الساعة وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار لعل الله أن يرزقه الشهادة فيكون شفيعًا لي ولأبيه يوم القيامة . فقال أبو عبيد : لأن فعلت فأرجو والله أن تفوزوا فوزًا عظيمًا فصاحت العجوز : يا إبراهيم يا إبراهيم فوثب شابًا نضر من وسط الناس وقال لبيك يا أماه فقالت أي بني أرضيت بهذه الجارية زوجًا لك ومهرها أن تبذل مهجتك في سبيل الله فقال أي والله يا أماه فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها ثم جاءت بعشرة آلاف دينار ووضعتها في حجر عبد الواحد ابن زيد ثم رفعت بصرها إلى السماء وقالت اللهم إني أشهدك أني زوجت ولدي من هذه الجارية على أن يبذل مهجته في سبيلك فتقبله مني يا أرحم الراحمين ثم قالت يا أبى عبيد هذا مهر الجارية عشرة آلاف دينار تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله ثم انصرفت واشترت لولدها فرسًا حسنا وسلاحًا جيدًا ثم أخذت تعد الأيام لمفارقته وهي تودعه في كل نظرة تنظرها وكلمة تسمعها والمجاهدون يعدون العدة للخروج فلما حان وقت النفير خرج إبراهيم يعدو والمجاهدون حوله يتسابقون والقراء يتلون قوله تعالى –[ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ]- [ التوبة/111] ثم نظرت إليه لما أرادت فراقه ودفعت إليه كفنًا وطيبًا يطيب به الموتى ثم قالت له وكأن قلبها يخرج من صدرها قالت يا بني إذا أردت لقاء العدو فالبس هذا الكفن وتطيب بهذا الطيب وإياك أن يراك الله مقصرًا في سبيله ثم ضمته إلى صدرها وكتمت من عبرتها وأخذت تشمه وتودعه وتقبله ثم قالت اذهب يا بني فلا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه يوم القيامة فمضى إبراهيم والعجوز تتبعه بصرها حتى غاب مع الجيش فلما وصلوا لبلاد العدو وبرز الناس للقتال أسرع إبراهيم إلى المقدمة فابتدأ القتال ورمي في النبال وتنافس الأبطال أما إبراهيم فقد جال بين العدو وصال وقاتل قتال الأبطال حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو فلما رأى العدو ذلك أقبل عليه جمع منهم هذا يطعنه وهذا يضربه وهذا يدفعه وهو يقاوم ويقاتل حتى خارت قواه ووقع من فرسه فقتلوه وانتصر المسلمون وهُزِمَ الكافرون ثم رجع الجيش إلى البصرة فلما وصلوا البصرة تلقاهم الناس الرجال والعجائز والأطفال وأم إبراهيم بينهم تدور عيناها في القادمين فلما رأت أبا عبيد قالت له يا أبى عبيد هل قبل الله هديتي فأهنئ أم إبراهيم ردت علي فأعزى فقال لها بل والله قد قبل الله هديتك وأرجو أن يكون ابنك الآن مع الشهداء يرزق فصاحت قائلة الحمد لله الذي لم يخيب فيه ظني وتقبل نسكي مني ثم انصرفت إلى بيتها وحدها بعدما فارقت ولدها يشتد شوقها فتأتي إلى فرشه تشمها وإلى ثيابه فتقبلها حتى نامت فلما كان الغد جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت : السلام عليك يا أبا عبيد بُشْرَاكْ بُشْرَاكْ قال يا أم إبراهيم ما خبرك قالت يا أبا عبيد نمت البارحة فرأيت ولدي إبراهيم في المنام في روضة حسناء وعليه قبة خضراء وهو على سرير من اللؤلؤ على رأسه تاج يتلألأ وإكليل يزهر زهو يقول يا أماه أبشري قد قبل المهر وزفت العروس .